الاثنين، 29 أغسطس 2022

آهٍ يا عُمَرُ / بقلم الأديبة عبير محمود أبو عيد


 آهٍ يا عُمَرُ.

بقلم الأديبة : عبير محمود أبو عيد

فلسطين - القدس

- آهٍ يا عُمَرُ أَينَ عَدلُكَ؟ فَأَنا مُحتاجَةٌ إِلَيهِ كَثيرًا، فَمُذْ رَحَلَ والِدي عَنْ هذِهِ الدُّنيا، وَأَنا أَعيشُ حالَةَ الظُّلمِ يَومًا بِيَومٍ. وَلَكِنْ ما يَجعَلُني صابِرَةً أَنَّهُ خَيرٌ لي أَنْ أَكونَ مَظلومَةً مِن أَنْ أكونَ ظالِمَةً.

مَسَحَتْ شَهدُ دُموعَها الحائِرَة، وَرَجَعَتْ بِالوَراءِ إِلى أَيّامِ الدِّراسَةِ وَكَيفَ أَنَّها تَخَرَّجَتْ مِنَ المَدرَسَةِ، وَكانَتْ تَحلُمُ أَنْ تَدْرُسَ المُحاماةَ في الجامِعَةِ الأُردُنِيَّةِ في عَمّانَ. لكِنْ مَمنوعٌ لِها أن تًسافِرَ خارِجَ فِلَسطينَ فَدَخَلَتْ جامِعَةَ بَيتَ لَحمٍ وَدَرَسَتْ فيها. وَبَعدَ ثَلاثَةِ أِشهُرٍ مِنْ تَخَرُّجِها، ماتَ والِدُها فَتَهَدَّمَتْ كُلُّ أَحلامِها. كانَتْ تَحلُمُ أَنْ تُكمِلَ رِسالَتي الماجِستيرَ وَالدكتوراةَ وَتُصبِحَ أُستاذّةً في اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ الّتي كانَتْ تُحِبُّها بَلْ تَعشَقُها كَعِشقِها لِمَدينَتِها الغالِيَةِ: القُدسِ.

وَتَقاتَلَتْ عائِلَةُ شَهدٍ عَلى ميراثِ الوالِدِ، وَاستَأثَرَ شَقيقُها مِنْ والِدِها بِالقِسمِ الأَكبَرِ مِنَ الثَّروَةِ. كانَ والِدُها يُخبِرُها بِاستِمرارٍ أَنَّهُ وَضَعَ عِندَ شَقيقِها 300 أَلفَ دينارٍ أُردُنِيٍّ لَها وَلِأَخَواتِها الأَربَعَةِ، أَيْ أَنَّ لَها 60 أَلفِ دينارٍ أُردُنِيٍّ. آهٍ لَوْ كانَ مَعَها هذا المَبلَغُ، لَأَكمَلَتْ دِراسَتَها الجامِعِيَّةَ في جامِعَةِ الأَزهَرَ في القاهِرَةِ، وَلكِنْ كُلُّ الأَحلامِ تَبَخَّرَتْ ولَمْ يَبْقَ غَيرُ الذِّكرَياتِ المُؤلِمَةِ. لَقَدْ احتَسَبَتْ هذا الابتِلاءَ وَصَبَرَتْ وَاشتَغَلَتْ.

وَتَفَرَّغَتْ شَهدُ وَاَخوها سَليمٌ لِرِعايَةِ والِدَتِهِمْ أُمَّ سَليمٍ المَريضَةِ. وَكانَتْ شَهدُ تُحِبُّ والِدَتَها كَثيرًا وَلا تَنامُ إِلّا إِذا حَضَنَتها. وَكانَ مِنْ عادَةِ شَهدٍ في كُلِّ صَباحٍ أَنْ تُقَبِّلَ قَدَمَي والِدَتِها مِنْ تَحتِ.. كَيفَ لا وَالجَنَّةُ هُناكَ.

واشتَدَّ مَرَضُ والِدَتِها، فَكانَ عَليها وعَلى أَخيها سَليمٍ وَضعُ الوالِدَةِ في مَشفى المُطَّلَعِ (الأُوغستا فيكتوريا) في قِسمِ العِنايَةِ المُستَمِرَّةِ. تَذهَبُ شَهدٌ لِعَمَلِها وَمِنهُ إِلى المشفى عِندَ والِدَتِها وَتَظَلُّ هُناكَ لِغايَةِ السّاعَةِ الثّامِنَةِ أَوِ التّاسِعَةِ ليلًا، ثُمَّ تَعودُ إِلى البَيتِ تُنَظِّفَهُ وَلِلأَعمالِ المَنزِلِيَّةِ الأُخرى، فَلا تَنامُ إِلّا في ساعَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ جِدًّا في اللَّيلِ.

وِبَعدَ سَنَتَينِ، تُوُفِيَتْ والِدَةُ شَهدٍ، فَرَأَتْ نَفسَها وَحيدَةً في عالَمٍ القَوِيُّ فيهِ يَأْكُلُ الضَّعيفَ وَالغَنِيُّ يَدوسُ بِقَدَميهِ عَلى الفَقيرِ. ابتَعَدَ عَنها الأَهلُ وَأَصبَحَتْ تَعيشُ عَلى هامِشِ الحَياةِ. وَارتَأَتْ شَهدُ أَن تَكتُبَ رِسالَةً إِلى عالَمِ الأَمواتِ قالَتْ فيها :

في مَدينَتي القُدسُ لا توجَدُ رَحمَةٌ وَلا عَدلٌ وَلا شَفَقَةٌ وَلا أُخُوَّةٌ وَلا تَراحُمٌ وَلا صِلَةُ رَحِمٍ.

في مَدينَتي القُدسُ الكِبارُ وَأَصحابُ النُّفوذِ يُحَلِّلونَ الحَرامَ وَيُحَرِّمونَ الحَلالَ.

في مَدينَتي القُدسُ البِنتُ تُحرَمُ مِن ميراثِ والِدِها وَالأَخُ يَقتُلُ أَخاهُ وَالصَّديقُ يَخونُ صَديقَهُ كُلُّ ذلِكَ حُبًّا وَطَمَعًا في المالِ.

في مَدينَتي القُدسُ أَنتَ غَنِيُّ إِذَنْ لَكَ الكَثيرَ مِنَ الأَصدِقاءِ وَالمَعارِفِ لَيسَ حُبًّا فيكَ إِنَّما طَمَعًا في مالِكَ، وَإِذا كُنتَ فَقيرًا، فَأَنتَ لَكَ اللهُ فَقَطْ.

في مَدينَتي القُدسُ العالِمُ لَيسَ لَهُ مَكانٌ وَالجاهِلُ يُصبِحُ السَّيِّدَ وَالحاكِمَ لِسَبَبٍ واحِدٍ : لِأَنَّ قُوَّتَهُ تَكمُنُ في مالِهِ الكَثيرِ.

هِيَ رِسالَتي لَكَ يا أَميرَ المُؤمِنينَ عُمَرَ أَيُّها الفاروقُ فَأَنا مُحتاجَةٌ لِعَدلِكَ.

آآآآآآآآهٍ يا عُمَرُ!

آهٍ تَخرُجُ مِنْ حَنجَرَتي الّتي تَشتاقُ لِصَوتِ الحَقِّ وَالضَّميرِ وَالعَدلِ.

آهٍ تَخرُجُ مِنْ فُؤادي الّذي شَهِدَ تَحَطُّمَ أَحلامِهِ وَآمالِهِ.

آهٍ تَخرُجُ مِنْ كَبِديَ المَحروقِ وَدموعِيَ الحائِرَةِ تُناشِدُ رَبَّ السَّماءِ أَنْ يُعيدَ الحَقَّ لِأَصحابِهِ.

آهٍ تَخرُجُ مُحَمَّلَةً بِالشَوقِ وَالحَنينِ لِزَمَنٍ كانَتْ فيهِ كُلُّ معاييرِ الصِّدقِ وَالأَمانَةِ وَالأُخُوَةِ وَالصَّداقَةِ الحَقيقِيَّةِ مَوجودَةٌ.

ارجَعْ يا عُمَرُ وَأَعِدْ لِيَ حَقّي، عُدْ لِلقُدسِ فَيَزولُ الظُّلمُ وَالظّالِمونَ وَتَبقى أَنتَ : الفاروقُ عُمَرُ.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق