بحرالقوافي أبوعلي الصُّبَيْح .أنا الحُرُّ لن أرضى بنهري مقيَّدًا
ولن أشتهيْ إلّا بأرضي جداولا
زرعتُ بأحشاءِ الخلودِ حدائقي
وليْ لن يدوسَ الموتُ يومًا خمائلا
إنْ يكنِ العُهْرُ لهمْ ... دِيناً
وضلالُ الفِكَرِ المجنونة
فالطُهْرُ لنا خيرُ لباسٍ
ورغائبُ قِيَمٍ ميمونة
أُعطِيتَ المالَ فلا تُفْسِدْ
بعواقبَ ليستْ مأمونة
أتظنُّ... بأنكَ في وطنٍ
وبدعوى الفنِّ المظنونة
ستعربدُ فيه بلا خَجَلٍ
يا ويحَ المُهَجِ المفتونة
أيمُرُّ العُهْرُ بلا غَضَبٍ
نبعثُهُ أوْ نَهلِكُ دُوْنَه ؟!
ستعيشُ بنا قِيَمٌ عُظمَى
وتظلُّ مَدَى الدهرِ مَصُونَة
فيه السَّماحةُ لَمْ يَعِشْْ أنوارَها
إن السعادةَ في الحياةِ سلامةٌ
في الصدر لو يدري الفَتَى أسرارَها
بركاتُ عُمْرٍ يستقيمُ على الهُدَى
ويرى على طول المدى آثارَها
راقٍ لجنَّاتِ الفضيلةِ مَن سَمَا
فوق الهوى مستشرفاً أنهارَها آنَ
كلُّ ما تسعى نحوَهُ سوفَ يأتي
فاتحًا صدرًا قائلًا : مرحبا
فاحتضِنْهُ وقلْ لهُ : جئتَ أهلًا
لكَ دهري قد شِدتُهُ ملعبا
فيكَ أنسى ما شلَّ خطوَ انطلاقي
واثبًا أبغي آتيًا أطيبا
قد طردتُ الدّخانَ عن عينِ عزمي
ولقد قمتُ ساحقًا عقربا.
كلُّ هذا الضّجيجِ حولي يثورُ
وأنا في دنيا هدوءٍ أدورُ
لا أغنّي إلّا على عُوْدِ نفْسي
وعلى أبوابي تدقُّ عصورُ
أذكرُ الحَلّاجَ القتيلَ لطُهْرٍ
والمعرّيَّ في رمالٍ يغورُ
وابنَ كلثومٍ سيفُهُ صارَ قشًّا
وهْو مثْلي مقيَّدٌ مدحورُ
وغِنا زِريابٍ وقد راحَ يبلى
ولقد كانَ لحنُهُ لا يبورُ
وأبا نوّاسٍ يمدُّ يديهِ
ليْ وإنّي كمثْلِهِ مخمورُ
وأنادي قَيْسًا ليُخصِبَ قلبيْ
بالّذي فيهِ أنّةٌ وشعورُ
أذكرُ الخنساءَ الّتي لمْ يُكفكَفْ
دمعُها إذْ حولي دمٌ وقبورُ
وجريرًا يمدُّني بهِجاءٍ
منهُ آذانٌ تشتكي وصدورُ
وأبا الطَّيبِ الّذي لمْ يزلْ بيْ
صوتُهُ عاليًا يموجُ يفورُ
معَهُ أمدحُ الملوكَ وأهجو
والنّبوءاتُ عرشُها منخورُ
وابنَ رُشْدٍ يداسُ تحتَ نِعالٍ
حينَها متْنا واستُبيحتْ دُوْرُ
وابنَ سينا بعِلمِهِ نالَ نهْشًا
مِنْ ذئابٍ باتت علينا تجورُ
وابنَ منظورٍ صارَ فينا لسانًا
أجنبيًّا وهُدِّمَ المعمورُ
وابنَ خلدونٍ كالغريبِ يعاني
وبهِ الرّأسُ منحنٍ منحورُ
آهِ مِنْ أمّةٍ تُميتُ رؤاها
ولها انشقَّ في النّوازلِ سُوْرُ
يكثرُ الجوعى والعطاشُ بها يا
أمّةً تذوي في رُباها الزّهورُ
انهضي مِنْ هذا الحُطامِ وقومي
وكفى فيكِ ينطفيْ التَّنّورُ
أذكرُ التّاريخَ الجميلَ لأنسى
حاضرًا كلُّهُ عمًى وبُثُورُ
مَنْ سوانا في الأرضِ تاريخُهُ مِنْ
يومِهِ أبهى والمُطِلُّ شرورُ؟
لسكوني دعني لأنسجَ حُلْمًا
لي فيهِ تزهو في الدّهورِ دهورُ
وقهرتُ الطّوفانَ جاءَ عنيفًا
هائجًا كلَّ بسمةٍ غيَّبا
وإلى الدّنيا رحتُ أجعلُها ليْ
منزلًا فيهِ لا أرى متعَبا
ولِما قد سعيتَ قُلْ : هاكَ كفّي
ولنُصِغْ لحنًا آخرًا أعذبا
قد سئمْنا ما فاتَ ممّا كرِهْنا
والّذي فينا المُبتغى صَلَّبا
آنَ بعد السّقوطِ أنْ نتسامى
ونُشيدَ الّذي بنا خُرِّبا
فالحياةُ الّتي ستنجِبُ خيرًا
بسوى هذا الفِكْرِ لن تُخصِبا