كانت تجلسُ في نهايةِ القاعةِ تراقبُ ذلكَ الصَّباحَ الجميلَ كيفَ تخِذتهُ حبَّاتُ المطرُ ملعباً لها.هيَ ..
تحاولُ تشتيتَ انتباهها
عدمَ النَّظرِ إليهِ وهوَ يلقي محاضرتهُ.
هم ..
طلَّابُ علمِ النَّفسِ في السَّنةِ الأخيرةِ.
الكلُّ مهتَّمٌ بسماعِ معلوماتهِ ..
هوَ ..
الأستاذُ العائدُ معَ دكتوراهَ في هذا المجالِ.
كانت تكرهُ مجالها لأنَّهُ كانَ السَّببَ الرَّئيسيَّ في اختيارها لدراسةِ هذا العلمِ والتَّخصصُ فيهِ.
أحبَّتهُ بشدَّةٍ، واختارت أن تكونَ بقربهِ ..
أمَّا هوَ فقد فضَّلَ دراستهُ ونجاحهُ عليها.
تركها في سنتها الأولى منَ الجامعةِ وسافرَ ينشدُ المجدَ والنَّجاحَ.
وتشاءُ الأقدارُ أن يعودَ أستاذاً يدرِّسها في سنتها الأخيرةِ.
حاولَ كثيراً أن يعتذرَ وأن يقدِّمَ مبرِّراتهِ، لكنَّها لم تسمح لهُ قطُّ، حتَّى أنَّها لم تتوقَّف ولا حتَّى ثوانٍ قليلةً لتسمعهُ ..
تجاهلتهُ -وبقوَّةٍ- وأبدت لا مبالاةً عجيبةً.
أكملت حياتها وتعاملت معَ وجودهِ كأنَّهُ أحدُ المسلَّماتِ غيرِ المهمَّةِ.
كانَ موضوعُ المحاضرةِ عن أسوءِ المشاعرِ وضررِها على النَّفسِ ..
الجميعُ يشاركُ ويسهبُ في النِّقاشِ ...
إلَّا هيَ فشاردةُ الذِّهنِ برحابةِ السَّماءِ وما تكتظُّ بهِ ذلكَ الصَّباحِ.
كأنَّها محطَّةُ قطاراتٍ تشهدُ ازدحاماً أو سوقاً شعبيَّاً يحوي كلَّ شيءٍ.
فجأةً أوقفَ رحلتَها اللَّامكانيَّةَ صوتُهُ ذو النَّبرةِ الجهوريَّةِ ... "جومانا"
ما هوَ الخذلانُ .... وما تأثيرهُ النَّفسيِّ؟
وبلا وعيٍ وقفت مكانها وتجمَّدت ..
ناداها تفضَّلي إلى هنا ...
كانَ قد وضعَ كرسيَّاً في مواجهةِ الطُّلابِ وأشارَ لها أن تجلسَ،
تحرَّكت صوبهُ من غيرِ أن تشعرَ وقد أحاطَ بها صقيعٌ ونسماتٌ متجمِّدةٌ، وتحوَّلتِ القاعةُ بمن فيها بقعةً مجهولةً في قفارِ سيبيريَّةَ ..
وكسجينٍ يجرُّ سلاسلَ أثقلت كاهلهُ في منصَّةِ إعدامٍ مغوليِّةٍ تقدَّمت نحوَ الكرسيِّ وجلست.
لم ترَ أحداً من زملائها الذين باتت ثرثرتهم مسموعةً، إذِ الأغلبيَّةُ تعرفُ قصَّتها.
وحيدةً في فضاءٍ لانهايةَ لهُ ...
بياضٌ بلا ملامحَ ولاحدودٍ ...
فقط صوتهُ وهوَ يعيدُ السُّؤالَ ......
وكأنَّهُ عبرَ بها عبرَ مسلكٍ دوديٍّ إلى زمانٍ آخرٍ وجدت نفسها وسطَ أمفيثيترَ رومانيٍّ فريسةً تسعى نحوها الأسودُ
وهوَ المجالدُ الذي أنهى ماتركتهُ المفترساتُ!!
على الأرضِ ..
والدِّماءُ التي جعلت الرُّؤيةَ مبهمةً ..
كانت تلفظ آخرَ أنفاسها الممزوجةِ بالغبارِ ..
كلُّ ما أحسَّت بهِ وقعَ قدميهِ ونصلَ سيفهِ يخترقُ صدرها.
غابت عنِ العالمِ كأسيرٍ أنهكهُ سيلُ التَّعذيبِ ..
وفجأةً صبَّ دلوَ ماءٍ باردٍ في وجهها ليعيدها بسؤالهِ .....
رفعت رأسها نحوهُ ونظرت بتحدٍّ وقالت:
كأن يضعكَ القدرُ في طريقِ انهيارٍ ثلجيٍّ عظيمٍ يكتسحُ كلَّ شيءٍ ويلقي بكَ أسفلَ الوادي مغموراً تحتَ مئاتِ الاقدامِ منَ الثَّلجِ تقيِّدُ أوصالكَ ..
تتجمَّدُ ببطءٍ وسطَ فراغٍ منَ الهدوءِ ..
ربُّما نجوتُ ..
ولكن لسعةُ البردِ أصابت قلبي
ممَّا اضطرَّني لإزالةِ ذلكَ الجزءِ الذي يحتويكَ.
الشاهين المقيد